للألمان أن يعتزوا بالديمقراطية التي أقاموها منذ عام 1949، وهم يشاهدون الآن التطورات المثيرة في مدينة إرفورت عاصمة ولاية توينجن، والتي لولاها لكانت هذه العاصمة الإقليمية بلا حيوية تذكر. فربما استولى الشعبويون من الجناح اليميني على السلطة هناك، كما فعلوا في مناطق أخرى من أوروبا والعالم، لكن الثقافة السياسية في ألمانيا، والتي قامت على أنقاض جمهورية فايمار والرايخ الثالث، تُخضع هؤلاء اليمينيين للرقابة بشكل واضح.
ويوم الأربعاء الماضي (5 فبراير)، كان الحزب الشعبوي اليميني المتطرف، «البديل من أجل ألمانيا»، قد دبر لانقلاب تكتيكي في برلمان ولاية تورينجن، سعياً لجعل التطرف أمراً طبيعياً في السياسة الألمانية. لكن خلال ساعات، تصدى التيار السياسي الرئيسي في ألمانيا للتحرك بعزيمة قوية. ونزل محتجون إلى الشوارع في إرفورت وبرلين ومدن أخرى. ويوم الخميس تم إحباط الانقلاب وأصبحت البلاد تبدو أكثر وحدة مما كانت عليه ضد التطرف. وتضمنت المناورة البرلمانية لحزب البديل تحويل دعمه سراً في الجولة الثالثة من التصويت، وبالتالي إطاحة رئيس الوزراء الذي كان يشغل المنصب ومساعدة مرشح مغمور يدعى توماس كمريش، من «الحزب الديمقراطي الحر» الذي يضم أقل عدد من الأعضاء في البرلمان. ولم يتضح ما إذا كان كمريش على علم بمخطط حزب «البديل».
لكن الواضح تماماً هو رد الفعل القومي؛ فقد أدان زعماء ثلاثة أحزاب من اليسار الخديعة باعتبارها «تخريباً سياسياً»، وأدانها أيضاً زعماء الأحزاب المحافظة. ووبخت انجريت كرامب كارينباور، رئيسة «حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي» والمرشحة لخلافة أنجيلا ميركل في منصبها، فرع حزبها في تورينجن الذي صوت لصالح كمريش. ووصفت ميركل نفسها الإجراء بأنه «لا يُغتفر». كما أعلن زعماء من «الحزب الديمقراطي الحر» أن أي منصب سياسي يعتمد على دعم من «حزب البديل» غير مقبول.
واستوعب كمريش، وهو سياسي إقليمي لم يجر اختبار قدراته من قبل، أن لا أمل له في بناء أغلبية حاكمة، وأدرك أن طريقه إلى السلطة عبر مناورة «البديل»، لم تكن لتعد مشروعة. ولذا قدم استقالته يوم الخميس، ودعا حزبه إلى انتخابات داخلية جديدة.
ولا نعرف الطريقة التي سيصوت بها الناخبون في تورينجن، لكن المرجح أنهم يدركون الآن بأن السياسة في ولايتهم أصبح لها أهمية قومية، بل قارية أيضاً. وربما يشعرون بنداء خاص من المسؤولية.
فما الذي تخبرنا به هذه الدراما بشأن الديمقراطية الألمانية؟ لقد كُتب دستور ألمانيا لما بعد الحرب العالمية الثانية، في ظل رعاية أميركية، ليكون قلعة قوية ضد التطرف. لكن الديمقراطية لا تحتاج إلى نصوص فحسب، بل أيضاً إلى روح المؤسسات الليبرالية.
وفي عصر الديمقراطيات، يبدو أن هناك تقاعساً عن المزج بين نصوص الحرية وبين الروح المطلوبة، كما تم تذكير كثيرين من الأميركيين والألمان وآخرين في الأيام القليلة الماضية بعد أن برّأ مجلس الشيوخ الأميركي الرئيس ترامب دون حتى قبول شهادة الشهود أولاً. فمن الناحية الشكلية، كان انتخاب كمريش من الهيئة التشريعية في تورينجن مشروعاً بشكل تام؛ فأعضاء البرلمان أدلوا بأصواتهم، في عملية اقتراع سرية وحرة. لكن أصبح من الواضح على الفور أن خداع «حزب البديل» يخون روح الديمقراطية الألمانية ويستخف بإرادة ناخبي تورينجن. وبدأ الألمان يقومون تلقائياً بما هو صائب، كما لو أنهم كانوا يتدربون منذ 75 عاماً.
*كاتب متخصص في الشؤون الأوروبية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»